شغف العلم الذي لا ينتهي

مثلث علوم البيولوجي - علم الجينات والكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية - ساينسوفيليا

 Biology triangle: Genetics, Biochemistry and 

Molecular biology

كتابة : دكتور / عبد الرحمن محمد طه
مدرس مساعد البيوتكنولوجي - كلية الزراعة - جامعة المنيا 

مثلث علوم البيولوجي - علم الجينات والكيمياء الحيوية والبيولوجيا الجزيئية - ساينسوفيليا

 

نريد أن نفهم الحياة؛ أن نعرف كيف تقوم الكائنات الحية بما يُميِزُها من قدرة على الحركة، التكاثر، التنفس، التغذية والإحساس. فإذا أخذنا قدرة الفراشة على الطيران كمثال لأحد الوظائف البيولوجية (Biological function) وبدأنا في التفكير... كيف لهذه الفراشة الجميلة أن تُحرك جناحيها لتطير؟ أو كيف تضع بيضاً يخرج منه فراشات جديدة تشبهها؟ ربما يمكن لهذا المخطط الذي يغطى معرفتنا بالبيولوجيا كما هي عليه اليوم أن يجيب على هذا التساؤل.

اعتمد فلاسفة اليونان القدماء على التأمل كوسيلة لدراسة الوظائف البيولوجية للكائنات الحية؛ لقد كان تقليداً فلسفياً قديماً أن تجلس وتفكر في الأشياء. فأرسطو كان يعتقد أن تعيين الجنس (هل سيكون الجنين ذكر أم أنثى) مرتبطاً بطريقة ما بالطقس (هل التقى الوالدان بالتزامن مع الرياح الشمالية أم الرياح الجنوبية)؛ ولم توجد أي بيانات تجريبية لدعم هذا الاعتقاد. لوقت طويل من الزمان لُوحِظ أن الرأس تكون دافئة ،وعليه سائد القول بأن المُخ هو جهاز يشِع أو يوزع الحرارة؛ ربما يكون كذلك في حالات عديدة، ولكنى أفضل الاعتقاد بأنه يؤدى وظائف أخرى كثيرة أهم من ذلك؛ فمن الصعب أن نبني اعتقاداً على تلك المُلاحظات بدون تجارب أو أدلة تدعمها؛ وإن كانت الـ  Observational biologyأداة مهمة بشكل لا يمكن تجاهله، فاختراع الميكروسكوب مكَّننا من رؤية الخلايا وتراكيبها الداخلية مما علمنا الكثير والكثير؛ ولكن حتى عرفنا البيولوجيا التحليلية Analytical biology وهى القدرة على اختبار الأفكار بواسطة التجارب، لم يكن بإمكاننا القطع يقيناً أنّنا على صواب، فما نعتَقِدُه عن تلك المُلاحظات قد يكون على قدر من الصواب أو أن يكون علي نفس القدر من الخطأ. 

ظهرت مع بداية القرن العشرين طريقتان رئيسيتان لدراسة الأحياء؛ إحدهما الكيمياء الحيوية Biochemistry وهي فهم الحياة عن طريق سحقها، تجزئتها إلى قطع صغيرة، وتنقية قطعة واحدة فقط بعيداً عن المكونات الأخرى ودراستها مُنفردة خارج الكائن الحي. فإذا أراد الكيميائي معرفة السبب الذي يحرك جناحي الفراشة الجميلة لتطير؛ سيبدأ بطحن الفراشة بطريقة ما ليبحث عن مكوناتها التي من المحتمل أن تكون قادرة على الانزلاق فوق بعضها البعض، وسيكون سعيداً عندما يستطيع أن يُنقى تلك المكونات القادرة على الحركة للأمام والخلف بدون باقي الفراشة؛ فبالطبع ستكون على يقين أنك حصلت على سبب الحركة الحقيقي. عادةً أكثر الجزيئات إثارة للاهتمام والتي يمكن للكيميائي أن يعزلها أثناء بحثه عن أسباب الوظائف البيولوجية هي البروتينات. 

بدأت في نفس الوقت وجهة النظر المُقابلة وهي الوراثة Genetics، يقوم الوراثيون بالعكس تماماً فإذا كان الكيميائي يدرس مكوناً واحداً بعيداً عن باقي الكائن الحي فما يقوم به الوراثيون هو دراسة الكائن الكامل ينقصه مكون واحد، كالكائنات الطافرة Mutants فهي محل اهتمام الوراثي. ولم يمتلك الوراثيون أدنى فكرة عن ماهية الشيء المفقود أو سبب الخلل؛ وما لا تعرفه يمكنك تسميته، لأن هذا يجعلُك تشعر بشعورٍ أفضل...! فأطلق الوراثيون على تلك الأشياء المفقودة والتي تتمثل في الصفات اسم الجينات Genes (Gene, like generating, like genesis). وقد يسعى الوراثي لتفسير قدرة الفراشة الجميلة على الطيران من خلال البحث عن فراشات عديدة لا يمكنها الطيران، ومن ثم يجري التزاوج (التلقيح) فيما بينها بكل التباديل والتوافيق الممكنة، وبعدها يحدد أي التلقيحات ينتُج عنه نسل به طفرات مُختلفة تمنع الفراشات من الطيران؛ ربما بعض الطفرات تسبب غياب الأجنحة، البعض قد يسبب غياب العضلات، البعض لديه عضلات ولاكن هذه العضلات لا تعمل.

درس علماء الكيمياء الحيوية وعلماء الوراثة صفات الكائنات الحية كلٌ منهما بشكل مُستقل فالوراثيون يدرسون الكائن ينقصه جين واحد بدون معرفة هذا الجين ولم يكن بإمكانهم عزل شيء ما؛ بينما الكيميائيون يستطيعون طحن الأشياء وتنقيتها ودراسة تلك البروتينات في انابيب الاختبار بعيداً عن باقي الكائن ولم يكن باستطاعتهم إخبارك كيف تعمل هذه المكونات معاً في الكائن الكامل. في منتصف القرن العشرين تم الكشف عن الرابط الحميم بين الجينات والبروتينات وهو ما نسميه بالبيولوجيا الجزيئية Molecular biology فالجينات هي الـ DNA الذي يُنسخ إلى الـ RNA وهو جزئ وسطى يحمل الشفرات اللازمة لإنتاج البروتين. هذا الاعتقاد Dogma نشأ قبل اكتشاف Watson وCrick لبناء جزيء الـ DNA ولكنهما بالحلزون المُزدوج وفرا فهماً متميزاً حول احتمالية اشفار الـ DNA للبروتين؛ بالعقدين التاليين تم كشف هذا الغموض ولم تعد Dogma بعد الآن. 

بدأت ثورة دراسة الجهاز العصبي Neurology في ذلك الوقت وانشغل بها كبار العلماء؛ بينما الجيل الجديد كان له رأي آخر فما توصلنا إليه حتى الآن من أسرار الحياة هو مجرد معرفة نظرية وهي صحيحة لا شك؛ الجينات تُنسخ إلى الـ RNA الذي يُترجم إلى البروتين. ولكن لا يُمكننا معرفة تتابع القواعد النيتروجينية في جين واحد أو عزل الجينات عن بعضها لأنها مُتشابه من الناحية الكيميائية. وبأيدي الشباب حدث ثورة مُذهلة في سبعينيات القرن العشرين، لقد أصبح من الممكن عزل الجينات عن بعضها البعض والعمل على جين واحد، كما أمكن تحديد تتابع الجينات واستنساخها وتغيير تتابعها على الأقل في أنبوبة الاختبار؛ فيمكنك تحديد تتابع جين ما ومعرفة لأي بروتين يُشفر أو إقصاء هذا الجين Gene disruption ومعرفة أي وظيفة ستتعطل. وهذا ما سُمي بتكنولوجيا الـ DNA مُعاد الصياغة Recombinant DNA التي جعلت التحرك حول هذا المُخطط ممكنا، مما حول المعرفة النظرية إلى التطبيق العملي.

تصيب الامراض الجينية مثل Cystic fibrosis وHuntington’s disease ... إلخ عدد كبير من البشر؛ وفي بداية ثمانينيات القرن العشرين كان إيجاد الجين المسبب لهذه الأمراض أو البروتين الذي يُشفر له ذلك الجين يمثل تحدياً. لربما كانت المشكلة أنّنا ندرس الجينات بشكل فردي، ونحتاج لدراسة كل الجينات داخل النواة والتي تسمي بالجينوم Genome. هل يمكننا النظر الى الصورة بأكملها لرؤية كيف تتناغم تلك الجينات معاً؟ لقد كان سؤالاً على مقياس ضخم. وهكذا ولِدت علوم الجينوم Genomics وهي الرؤى الكبيرة المُنظمة لكل الجينات Genomics، نواتج تعبيرها Transcriptomics، البروتينات Proteomics ونواتج الأيض (المُستقلبات) Metabolomics معاً في آن واحد. لتحقيق تلك الرؤية تم إطلاق مشروع الجينوم البشرى Human Genome Project وفى عام 2003 تم الانتهاء بالكامل من تحديد تتابع القواعد النيتروجينية في الجينوم البشرى، ويمكننا الأن أن نعرف الجينات المرتبطة بالأمراض؛ كما يمكننا التحرك بحُرية حول هذا المُخطط ليس فقط لجينات مُفردة ولكن للصورة بأكملها. لقد كلف المشروع ثلاثة مليار دولار خلال ما يقرب من عشر سنوات؛ خفَّضت التقنيات الحديثة في تحديد التتابع التكلفة لتصبح أقل من ألف دولار الجينوم البشري الواحد (السعر أقل بثلاثة مليون مرة في فترة زمنية أقل من عشرين عام)؛ بسب التقدم الهائل في تكنولوجيا المعلومات والحوسبة السحابية والبرمجيات وتطور علوم المعلوماتية الحيوية Bioinformatics والمعلوماتية الكيميائية Cheminformatics يُتوقع انخفاض أكبر في الأعوام القادمة. قبل مشروع الجينوم البشري كنا نعرف أمراض وراثية قليلة ولكن الأن يصل عددها إلى أكثر من 5,000 متلازمة وراثية. تُري ماهي الثورة القادمة في علوم الأحياء؟


ليست هناك تعليقات