شغف العلم الذي لا ينتهي

فلسفة العلم والمعرفة - ساينسوفيليا

 فلسفة العلم والمعرفة - ساينسوفيليا  

دُرر ذهبية من شيخ مفوه

العلم والمعرفة نور الحياة

( مقال رأي ) 

فلسفة العلم والمعرفة - ساينسوفيليا

كتابة : متولي حمزة

العلم والمعرفة كلمتان كثيراً ما نسمعهما مترادفين ومجتمعين مع بعضهما البعض، ولكن لغوياً العلم والمعرفة كلمتان منفصلتان لا يربطهما سوى المعنى العام وهو اكتساب المعلومة والحصول عليها، فالعلم فعله (يتعلم) والمعرفة فعلها (يعرف)، وما بين يتعلم ويعرف صلة خفيفة وهي الإحساس بالشيء. لكن المعرفة هو مصطلح أعم وأشمل، إذ يتم تعريف المعرفة على إنها الإدراك والوعي وفهم الحقائق عن طريق العقل المجرد أو عن طريق الشعور بالشيء أو عن طريق إجراء تجربة ما أو تجريد شيء لأصوله. المعرفة مرتبطة بتطوير النفس والتقنيات وقد تعتمد بشكل كبير على التجارب الحياتية والشخصية للأشخاص، أو تعتمد على التأمل أو الإحساس. يتم تعريف كلمة المعرفة حسب قاموس أوكسفورد Oxford الإنجليزي على إنها الخبرات والمهارات التي يكتسبها شخص ما عن طريق الخطأ ليتعلم منه الصواب أو على إنها الفهم النظري والعملي للموضوع. ويقول الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري أن تعريف الشيء المعرفي هو الشيء الكلي والنهائي وتعبير الكليّة هنا يفيد الشمول والعموم في حين أن النهائية للوجود تعنى غايته وآخره وأقصى ما يمكن أن يبلغه الشيء. يرتبط مقدار المعرفة بالبديهة والقدرة على استنتاج ماهية الأشياء والعمل الدؤوب من أجل التعرّف على طبيعة الأشياء وتنمية القدرات الشخصية للفرد بناءً على الاستنتاجات. أما مصطلح العلم فهو مصطلح جزئي أو مصطلح منبثق من المعرفة، فالكلمة الأشمل والأعم هي المعرفة والعلم جزء منها، فمجموعة المعارف في الأحياء مثلاً هي علم الأحياء وهكذا. ويعرف العلم اصطلاحاً على إنه نظام معرفي يهتم بالعالم المادي وظواهره بهدف التوصل إلى ملاحظات تجريبية منهجية بشكل موضوعي بعدياً عن التحيز والعاطفة التي يتحكم فيها هوى الإنسان.

ذهبت لشيخي المفوه لعله يجد تفسيرا للحلم، جلست أمامه متربعا، وطأت رأسي أمامه، كتفت يداي على صدري، كنت مؤدبا، مؤدبا إلى حد بعيد كل البعد، قصصت عليه حلمي لعله يجد له تفسيرا، بكى بشدة ثم هب واقفا ليقول مظهرها تصوفه العتيق: "الله حي لا يموت"، ثم جلس ثانيا ليضع كفه اليمين على رأسي المُطَأْطَأْة أمامه، يحدثني عن الحلم ليقول لي قولا خلده لسانه: "التواضع صديق العلم أينما التقيا ارتقيا بصاحبهما، وأينما تفرقا تحدثا عن صاحبهما، أما الرقي ففي الأخلاق، وأما التحدث ففي الصيت الحسن"، سكت للحظات ثم أكمل: "التكبر عدو العلم، أينما التقيا تنافرا، وأينما تفرقا تشاجرا، أما التنافر فتنافر ضد لا ند، والضد عدوان، والند صديقان، وأما التشاجر ففي النفس، فإذا تشاجرت المعرفة مع النفس أهلكتها"، أغمض عينيه ثم أردف: "العلم مع التواضع مجهدة، والعلم مع التكبر مفسدة"، سكت للحظات ثم أضاف: "العلم رأس الحكمة، والحكمة رأس الفضيلة، والفضيلة شرف المرء، وشرف المرء عنوانه، وعنوان المرء كرامته، وكرامة المرء رداءه، ورداء المرء سترته، وسترة المرء عفته، وعفة المرء أخلاقه، وأخلاق المرء أفعاله، وأفعال المرء حياته فإن حسنت أفعاله نجى وإن قبحت أفعاله هلك"، سكت للحظات أخرى حتى قطعت سكوته بسؤالي عن زئير الأسد، وورقة الشجرة، وقطرة الماء، والشمس والقمر، وأثري الذي ظهر على الأرض الرطبة، تلك العلامات والأشياء الرمزية التي شعرت ببعضها ورأيت البعض الآخر في حلمي ليجيبني: "أما الزئير فهو الجهل يخيف صاحبه ولا يطيب له بالا، وأما ورقة الشجرة فهي العلم، من اعتاد عليه استطعمه، ومن استطعمه ألفه، ومن ألفه تعود عليه، ومن تعوده نجى، وأما قطرة الماء فهي المعرفة تروي ظمأ العقل وتطيب أثره كما تروي ظمأ العطشى، وأما الشمس والقمر فهما الدنيا والآخرة، أما الدنيا فهي القمر، تكون في ظله مثلما تكون في ظل الدنيا تنهل العلم وتغرف المعرفة، حتى لحظة ما تأتي الشمس كالآخرة لتكون ذو حظ وفير بها، وأما عن الأثر الذي ظهر على الأرض فهو أثرك الجميل الذي تركته في دنياك إذ تعلمت فعلمت، وتعرفت فعرفت، وتوصلت لاستنتاجات فوصلت لغيرك ما استنتجته، فكن يا بني ذا أثر"، أنهى كلامه بتعقيب أعجبني: "العلم والمعرفة كالطعام والشراب بدونهما تهلك، وبهما تسعد"، وقفت سعيدا للحظات، ثم ودعته فرحا، وأدركت أن للعلم مكانة لا يعلمها إلا من وصل إليها، وما أجملها من مكانة، إنها لتطيبه نفسا، وتسعده بالا، وتقره روحا، فما أسعده من حلم حلمته، وما أجمل العلم والمعرفة.
أدركت من كلام شيخي المفوه، ذلك العجوز النحيل الذي أقترب وجهه من أن يصل للأرض بسبب الانحناء والتقوس الذي أصاب عموده الفقري، أن العلم نور، نور في العقل ليزيده وضاءة، نور في الفكر ليزيده إشراقا، نور في الذهن ليزيده تحضرا ويقظة، أدركت أن العلم سلاح المتعلمين، سلاح قوي، يقتل الخرافات ويقضي على الجهل، سلاح ناصع البياض، يلمع بشدة، مسنون وحاد، يقضي على الأمية ويحارب الفقر ويصارع التخلف، أدركت من كلامه أن للعلم لذة لا يشعر بها إلا من جربها، لذة بشهوة، شهوة محللة، لا كذب فيها ولا غول، شهوة دائمة يستشعر بها العالم، تجذبه كمغناطيس قوي إلي المزيد من العلم، شهوة إيجابية تغلب على الهوى والرداءة، شهوة بنشوة تدفع العالم لنهل العلم واغتراف المزيد والمزيد من المعرفة، أدركت أن العلم لا يخسر صاحبه، أدركت أنه لا يوجد علم يخسر، فالعلم مكسب، مكسب جيد للمزيد من الاطلاع والمعرفة، فالمعرفة ليست المكسب الوحيد للعالم، إنما المعرفة هي المكسب والنشوة والنتيجة، أما المكسب فمكسب مادي ومعنوي، مادي كالمال، فالعلم يأتي لصاحبه بالمال من حيث لا يدري، ومعنوي كالروح، فالعلم يهذب المرء خلقا، وينقيه قلبا، ويصفيه ذهنا، وأما عن النشوة فهي نشوة دائمة وإيجابية تظل ملازمة لروح العالم الذي مازال طالبا للعلم، فالعالم يظل عالما لطالما أستمر في طلب العلم، فلا نهاية للعلم كما أنه لا نهاية للفضاء الشاسع الممتد إلى ما شاء الله، وأما النتيجة فدائما في صالح المرء، فالنتيجة الوحيدة التي تأخذ بيد صاحبها إلى المراتب العليا هي نتيجة العلم والمعرفة التي اكتسبت من نهل العلم واعتراف المعرفة، أدركت من كلمات تفسير حلمي الذي حلمته أن المرء بلا علم كالزرع بلا ماء، أما الزرع فيموت بلا نماء، وأما المرء فيصارعه الجهل والغباء، يصارعانه حتى يموت تدريجيا ببطء شديد كما سوف يموت الزرع إن لم يشبع بالماء، فكرت كثيرا في العلم حتى أدركت أنه بلا منازع أفضل استثمار تستثمره في حياتك، فإذا استثمرت مالك في جمع العلم والمعرفة من أي مصدر، وفي العلم والتعلم كنت خير مشروع فعلته بنفسك لنفسك، فعلى المرء أن يجمع العلم من أي مصدر حتى يواكب العصر، فيوم بلا تعلم كيوم بلا شمس يموت المرء جهلا كما تموت الأحياء قهرا، فلعلني أحب أن أكرر فرحتي وسعادتي بهذا الحلم الجميل الذي رأيته في منامي لعله كان سبب كبير في اقتناعي بأهمية العلم والمعرفة للمرء وللمجتمع، فما أجمل العلم، وما أفضل المعرفة، وما أسعد الدنيا بالتعلم، وما أقبحها بالجهل. 

الفرق بين العلم والمعرفة لغةً واصطلاحاً 

كلمة المعرفة اُشتـُـقــَـت من العُرف، والعرف مضاد النكر، والعِرفـَــان مضاد الجهل، لذا فإن الأدق أن نشير إلى تضاد كلمة المعرفة على إنه الجهل، وليس العلم مضادُ للجهل، بل الجهل مضاد المعرفة والعكس صحيح. ويمكن استخدام المعرفة للمجازاة والعلو، كما استخدمها الزمخشري في قوله: (لأعرفَـنَّ لك ما صنعت) وهنا يأتي معناها على إنه مجازة الشيء أو الشخص. ويمكن أن تستخدم أيضاً بمعنى العلو والطيابة، كما في القول التالي: (فلانُ غُرُّ المعرفة)، وأتت هنا بمعنى طيب المعرفة، وهكذا. أما عن مقصود كلمة المعرفة اصطلاحاً فهي العلم بذات الشيء وتفصيله عما سواه، وقد تستخدم كلمة المعرفة للعلم بآثار الشيء أو أثر وجوده لا ذاته، مثل قولنا: (العارف بالله) أو (عرفت الله)، فنحن لا نرى الله، ولكن أثر وجوده يأتي من دقة النظام الكوني والقدرة على تدبير أمور كل البشر، لذا نقول: (عرفت الله حقاً) على سبيل المثال لا الحصر، ولكن لا نقول: (عَلِمتُ الله حقاً) لأننا نعرف الله عن طريق استشعار أثره البليغ في تدبير وتكوين هذا الكون الظاهر أمامنا. ويرى بعضٌ من العلماء أن المعرفة هي شيء بديهي وفطري يحدث للمرء من تلقاء نفسه حيث لا داعي لفعله كلفةً، بينما يرى البعض الآخر أن المعرفة مكتسبة، ولا يمكن وقوعها ضرورةً لارتفاع الكُلفة، بينما نرى من وجهة نظرنا أن المعرفة شيء بديهي وفطري، فنحن نرى الطفل يبدأ في إدراك الأشياء على حقيقتها من تلقاء نفسه أو أن يسأل: (ما هذا؟)، فهذا السؤال في حد ذاته طلباً للمعرفة بماهية الشيء، فإذا عرفه كان حق المعرفة، وإن لم يعرفه كان شر الجهل، فالمعرفة يُضادُها الجهل. لكن العلم لغةً هو إدراك المرء الشيء على حقيقته وعلى بنيته الأساسية، وهو مصدر الفعل (عَــلِــمَ). وأما العلم اصطلاحاً فهو المعرفة كما قال بعض العلماء، ولكن البعض الآخر منهم يرى إنه أعمّ وأشمل من أن يُعرف، ويعد العلم نظاماً مادياً يهتم بالعالم المادي وظواهره الخاصة، ويبنى العلم على الملاحظات، والتجارب المادية، والتجارب المنهجية التي لا تنحاز لفكرة ما أو قانون معين. 

الـخـصــائص الـفـلـســفــيـّـة للـعـلــم 

تتعد خصائص العلم والمعرفة نظراً لكثرة التداخل العام بين الكلمتين.. لذا فإن من خصائص العلم؛ أولاً: التراكمية، وتعني أن العلم يتراكم فوق بعضه البعض حيث تتواجد نظرية ما إن لم يتم دحضها وإثبات عدم صحتها، فإن النظرية يتم تطويرها وبناء نظريات جديدة على أساسها، لذا فإن العلم كالبنيان المرصوص تبنى فيه لَبِنة فوق الأخرى. ثانياً: الدقة، حيث يتسم العلم بأنه دقيق للغاية ومن شأن هذه الخاصية أن تجعل الإنسان يسيطر أكثر على واقعه وأن يفهم بشكل أو بآخر القوانين العامة التي تحكم هذا الكون الشاسع، وقد يتم استخدام الرياضيات ليتم إثبات صحة هذه الفرضية من عدمها، وهكذا صحة هذه القوانين. ثالثاً: التجديد، حيث من شأن العلم أن يُجَدِدُ نفسه بنفسه، ويتم دحض الشبهات في النظريات المشبوهة والخاطئة ليتم التخلص منها وبناء نظريات أكثر شمولية وجديـّـة منها. رابعاً: الترابط، حيث يتميز العلم بالترابط العام بين أفكاره ومعتقداته، إذ يتم التخلص من العشوائية عن طريق العلم، فلا يوجد تفكير علمي مشوش أو عشوائي، حيث يتميز التفكير العلمي بأنه أكثر نظاماً وترابطاً عن غيره. خامساً: التأثُر والتأثير، حيث يتسم العلم بأنه يتأثر بعادات وتقاليد المجتمع، فالعلم في المجتمع الذي يسوده العشوائيات الفكرية والتطرف يكون غير العلم الذي يتواجد في المجتمع الذي يسوده المَلَكة العلمية والتفكير المنظم، فمثلاً العلم في الدول المتقدمة يختلف عن العلم في الدول المتأخرة، وكذلك من شأن العلم أنه يؤثر في المجتمعات نفسها كما يتأثر هو بنفسه. سادساً: العالميّة حيث يتسم العلم بأنه إذا خرجت نظرية جديدة للنور، فإنها تنتشر كالنار في الهشيم، وتعرف في أقطار واسعة ولا يُحِدُها أي حدود، بل إنها تتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية أيضاً. سابعاً: البحت والتمعن، حيث إنه لا يتم معرفة أي ظاهرة من الظواهر إلا بعد أن يتم معرفة أسبابها، ومن الأهم أن معرفة السبب والتدخل في الأسباب العامة لحدوث الظاهرة هو شيء فطري وبديهي، تعوّد الإنسان عليه منذ الصغر ومنذ الوهلة الأولى لوعيه وإدراكه العام. ثامناً: الخصوصية، حيث تتسم أدوات العلم التي تُستخدم في تفسير الظاهرة بالخصوصية، فلكل علم خاصيته التي لا تتداخل مع أي شيء آخر غير العلم. 

الـخـصــائص الـفـلـســفــيـّـة للـمـعـرفـــة 

تتعددُ الخصائص الفلسفيّة للمعرفة، ولكن من أبرزها؛ أولاً: التصنيف، حيث يمكن تصنيف المعرفة إلى عدة خصائص على حسب مجالاتها، ولكل مجال معرفته الخاصة به. ثانياً: الانتشار حيث تنتشر المعرفة في كل الأقطار وبكل السُبل المُمكنة، والمعرفة مشتركة بين جميع الفئات والمجتمعات وتنتقل عن طريق الخبرة. ثالثاً: التوليد، حيث إن المعرفة تتولد من خلال التعليل والتفكير والـمــَــلَــكَــة الفلسفية، بالإضافة إلى دور البحث العلمي والاستقصاء الذي يقوم به المختصون والذي من شأنه يولد المعرفة. رابعاً: التطور، فالمعرفة لا تُستهلك ولا تنفذ، بل تتطور وتتجدد باستمرار ولها نسيج عضوي حي يشعر بالشيء كما يشعر البشر. خامساً: التخزين، حيث يُسمح بتخزين المعرفة أياً كان قدرها على هيئة معلومات مختلفة، وقديماً كانت المعرفة تُخزن على الورق البردي كما في الحضارة المصرية القديمة، ولكن حديثاً فيمكن أن تُخزن بواسطة الوسائل الإلكترونية المختلفة. سادساً: الفناء وعدم الخلود، حيث تموت المعرفة بموت صاحبها إن لم تُسجل وتُدون على ورقة ما أو من خلال الوسائل الإلكترونية المختلفة، فمثلاً طلاب الإمام مالك كانوا يدونون مذهبه لذا بقي ولم يفنى بفنائه. سابعاً: حريّـة الامتلاك، حيث يحق لأي شخص أن يمتلك العلم والمعرفة كيفما شاء، فهي ليست قاصرة على شخص واحد، وإنما هي حق لكل فرد من أفراد المجتمع. 

الفارق الفلسفي بين المعلومات والبيانات 

كلمة المعرفة كلمة شمولية وواسعة وتحمل العديد من المعاني المختلفة، ولا تقتصر فقط على نوع معين من المعلومات، ولكن كلمة المعرفة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بعدة كلمات أخرى منها: المعلومات، التعليم، البيانات. وثمّة فارق كبير بين الكلمات الثلاث السابقة، فكلمة المعلومات تعني المُخرجات التي تمَّ وضعها في إطار ونُسق منظم لتعطى مدلولاً معيناً عن فكرة ما، أو يُمكن أن تُعرف على أنها توليفة من البيانات تم إعادة صياغتها لتعطي معناً مناسباً له مدلول خاص، ولكن لها شرط أن يتم الأخذ بهذا التعريف، وهو أن المعلومات لابد أن تكون متناسقة ومتناسبة مع بعضها البعض لتعطي مدلول علمي ذو طابع خاص. وأما كلمة التعليم فهو فن تلقي المعلومات، ولابد أن يكون التعليم قائماً على مبدأ التفكير العلمي السليم، ومن هُنا اتخذت الصين من أسلوب التفكير المنطقي وحل المشكلات منهجاً أساسياً قائماً على مبدأ المنطق والتفكير السليم الذي لا تخطئه نفس ولا تفوته مَـلـَـكـــة، ولذلك نجد أن الصين بها أكبر نسبة من العمالة، والعنصر البشري لدى الصين ذو وفرة كبيرة بعد أن طبقت الصين هذا المبدأ في مدارسها لتنشئة الأطفال على سُبل التفكير السليم والتعليم الجيد. ولكن كلمة البيانات تعني المعلومات في صورتها الخام والحقائق الأولية دون أي تعديل أو وضع إطار معين يجعلها ذات أهمية، فالبيانات هي نوع من المعرفة ولكن في صورة أولية دون أي تعديلات تجعلها تتحول بهذه التعديلات إلى معلومات. ويمكننا أن نفرق بين المعلومات والبيانات على أن البيانات هي معلومات ولكن في صورة بدائية أولية أو بمعنى آخر في صورتها الخام، وأيضاً البيانات هي الوسيلة التي نحصل بها على المعلومات، والبيانات تعتمد على المعرفة الحسية مثل معرفة لون شيء معين أو تذوق طعم معين، فإن مخرجات عملية الشعور بالحواس هي بيانات. فعلى سبيل المثال إذا سجلت هيئة الأرصاد الجويّة درجات حرارة ليوم ما فهذه هي بيانات، ولكن إذا طلبها الجمهور والفئات المختلفة من المجتمع فيحب على هيئة الأرصاد الجويّة إعادة صياغة هذه البيانات في صورة معلومات تُقال أو تُكتب في تقرير ما واحدة تلو الأخرى، وإذا استخدمت هيئة الأرصاد الجويّة عدة طرائق مختلفة لقياس درجة حرارة الجو، وتستخدم طريقة أو أخرى على حسب الأسرع والأدق والأفضل فهذه هي المعرفة لأنها اعتمدت على الخبرة في الأمر، وهذا هو الفارق بين المعلومات والبيانات والمعرفة. 

أنــواع الـمـعــــــارف الإنـســـانـيــــــة 

تختلف أنواع المعارف ويتم تصنيفها على أساس عدة عوامل منها النوع العام أو الجزء المستخدم من الحواس الشخصية وغيرها، ولكن من أبرز أنواع المعارف الإنسانية؛ أولاً: المعرفة الحسية وهي النوع الذي نستخدم فيه حواسنا في التعرف عليها وإدراكها، أي هي ما تراه العين، وتلمسه اليد، وتشمه الأنف، دون أن ننظر ونتفحص في كيفية حدوثها والأسباب التي حدثت من أجله، أي بدون معرفة الأسباب. ثانياً: المعرفة التأملية وهي نوع مهم من أنواع المعرفة الفلسفية التي تعتمد على الفِكر والتدبّر في أحوال شيء ما، مثل أن تتدبّر في عجائب قدرة الله في خلقه لهذا الكون الشاسع. ثالثاً: المعرفة العلمية وهي نوع من أنواع المعرفة التجريبية التي تعتمد على التجارب ووضع الفروض لإثبات صحة أو خطأ أي نظرية ما، ويتوصل الباحث عن هذه المعرفة في النهاية إلى القوانين العامة والفرضيات التي تثبت صحة هذه النظرية. 

الـمـعـرفــة عـنـــد الـحـضــــارة الـيـونـانـيــــة الـقـديـمـــــة 

تغيرت نظرية المعرفة كثيراً عبر العصور، وهي ليست وليدة العصور الحديثة فقط، بل كانت منذ أقدم العصور، وهي مفهوم يتطور دائماً، ومنذ زمن إيمانويل كانط الفيلسوف الألماني كانت نظرية المعرفة ذات مكانة عالية فاقت كل جوانب الفلسفة الأخرى، ومنذ ذلك التاريخ لم تكن الفلسفة مُعرَفة للعَالَم، بل تفكير في هذه المعرفة بالعلم أو هي المعرفة بالمعرفة، ومن هنا وُجِدَ التميّز في وضع المشكلة لدى فلاسفة اليونان مثل أرسطو. كان الفكر اليوناني في هذه الآونة ولاسيما فكر أرسطو منصباً على وصف الطبيعة والتعرف على مكوناتها لكن لم يتم التطرق إلى التعرف على آليات المعرفة وفروعها ولا حتى طرق الحصول عليها، فقد كان الفكر العام لدى علماء الفلسفة اليونانيون منصباً على الطبيعة فقط. 

قصة حلم تحول لحقيقة خالدة 

وقفت في واحة كثيفة الأشجار، ضوء القمر جعل مني ظلا خفيفا انعكس على الأرض، مشيت خطوات مترددة فإذا بظلي يتحرك أمامي، صوت زئير أسد ما بجانب الواحة رن في المكان، خفت للحظات وطمئنت نفسي إذ توقف زئير الأسد، كانت الظلمة تشتد سوادا كاحلا، تمتمت ببعض كلمات مهموسة، ثم صحت فجأة، فإذا بالأسد يرد علي بزئيره، حاولت الجلوس إلى جانب شجرة صغيرة، كان ضوء القمر صديقي الذي احتميت فيه، اضطجعت قليلا على هذه الشجرة، فإذا بورقة من أوراقها تسقط علي، أخذتها من على ملابسي وتحسستها فإذا ببعض تعرقات خفيفة تعوق نعومتها، مازال الأسد يزأر زئيرا مدويا، حاولت أن أقطع حدة جوعي بأكل هذه الورقة المتعرق ملمسها، كانت بعض قطرات من الماء الذي تكثف على أوراق الشجر لرطوبته قد سقطت على شعري، تحسست هذه القطرة حتى أبتلت أنامل يدي، شعرت بالسكينة والاطمئنان، ملت بهدوء إلى جذع الشجرة، كانت الورقة التي أكلتها مرة بشدة، لكنني استطعمتها ثم ابتلعتها ببطء شعرت به مريرا، بدء القمر يختفي ببطء خلف الشمس التي بدأت تشرق، بدأ النور يشع في المكان، هدأ الأسد ولم يعد يزأر، ثم قمت من على الأرض، كان جسمي قد ترك أثرا على الأرض الرطبة، قمت ثم تمطعت لثوان، كان نور الشمس قد ازداد شدة، ونورها عم في المكان، أدركت أن مرارة ورقة الشجرة التي اختفت من فمي هي مرارة لحظية، شعرت بمرارتها للحظات ثم استطعمتها واستحليتها، وكانت القطرات قد توقفت عن السقوط، أما ورقة الشجرة فكانت العلم، مرارته قاتلة في البداية وفي نهايته حلاوة مستدامة، وأما القطرة فكانت المعرفة تطيب الإنسان معرفة، وتزيده فهما، وأما الواحة فهي الدنيا قد أشرقت نورها إذ أنا استطعمت مرارة العلم ثم تعودت عليها، وارتشفت حلاوة المعرفة، حتى أتى الصباح ببهجته متغلباً على سواد الليل حيث الجهل، وقاضيا على زئير الأسد حيث التخلف، مرت دقائق حتى استيقظت من نومي، فكرت في هذا الحلم العجيب الذي يعد من الوهلة الأولى غريبا ولكنه منطقيا بعض الشيء، فكرت كثيرا، فكرت بتمعن، فكرت بصمت رهيب ومخيف، ضيقت حدقتي عيني متمعنا، وضعت سبابتي اليسرى على شفتي السفلى، عصفت ذهني عصفا مريرا لأتخيل مدى غرابة الحلم الذي حلمت به منذ لحظات إذا أنا نائم، تخيلت وفكرت حتى أدركت وتأكدت أن العلم والمعرفة في بدايتهما مرارة، وفي أوسطهما تعود، وفي نهايتهما حلاوة، أما المرارة فهي لحظية زائلة، وأما التعود فهو إيجابي مثمر، وأما الحلاوة فهي دائمة خالدة، فذق المرارة حتى تتعود فإذا تعودت ذقت الحلاوة، وهي دائمة، فمن لم يذق مرارة العلم لن يذوق حلاوة المعرفة. لم يكن هذا الحلم الآدمي سوى نقطة مضيئة في عالم الأحلام ليتحول بعد ذلك لحقيقة خالدة، تلك الحقيقة التي زرعت في النفوس لتخلدها للأبد، ليدرك بها الآدميون أن العلم عبارة عن فضاء شاسع لا نهاية له، لكن من ينهل منه جزءا بسيطا يستشعر بأنه عالم لا مثيل له، لكنه في الأصل علم ضئيل يشعر صاحبه بالعالمية واللامثالية ليستشعر في النهاية بأنه علم محدود، مهما أخذ منه ونهل لابد وأن يكون محدودا مهما زاد ومهما نهل! ليخلد بذلك حقيقة كون العلم محدود، ليثبت حقيقة الآية القرآنية الخالدة في قول الله سبحانه وتعالى "وما أوتيتم من العلم إلا قليلا"، فالعلم مهما زاد صاحبه من نهله واغترافه لابد وأن يكون قليلا محدودا بحدود المنطق والعقل، لذا فإن كونك طالبا للعلم طوال حياتك حتى بعد أن تنتهي من تعليمك يجعلك عالما، وذلك لأن الآدمي يكون عالما طالما ينهل من العلم، فالعالم عالم والجاهل جاهل في هذه النقطة، التي ينبثق منها هذا التصنيف الخالد للأبد، ولكن لكي يكون الآدمي عالما لابد أن ينفع الغير بما انتفع به من علم، فالعلم الذي لا يورث لصاحبه كرم العطاء العلمي للغير ليس بعلم، وليس بمعرفة، فإذا أردت أن تكون آدميا عالما بحق فعليك بتعليم الغير، فإن العالم إن لم يكن ذو معرفة واسعة نابعة من الفراغ المعرفي الذي يسد حدة جوعه من نهل العلم والاستزادة منه فلن يكون عالما، وحسبك من جهل معرفته شر، وأصله شر، ونهايته أشر! أما شر المعرفة فهو التكبر، فالعالم إن تكبر أصبح ذو جهل أصم، وأما شر الأصل فهو عدم التشارك بالعلم، وأما شر النهاية فهو الظلام، الظلام الذي يبهت من وضاءة صاحبه فلا يشتهر ولا يعرف بعلمه، وللمتكبر بعلمه صفتان، أما الأولى فهي العجرفة.. العجرفة بأنه يعلم، وهو في الحقيقة الصادمة لا يعلم ولا يتعلم، وإن تعلم تظاهر، والتظاهر هي الصفة الثانية.. التظاهر بالعلم الضئيل ليسد الفراغ الواسع والفجوة الكبيرة التي نشأت بينه وبين آدمي آخر ذو معرفة واسعة بماديات الأشياء وأسماءها.


نُشِرَ هذا المقالَ مِن قَبلِ علَى ثلاثةِ أجزاءٍ علَى موقعِ ساسة بوست وتم نشره بالمبادرة بعد أخذ موافقة الكاتب وبعد انضمامه للمبادرة. 


ليست هناك تعليقات