شغف العلم الذي لا ينتهي

الأسس الوراثية المسببة لمرض التوحد - ساينسوفيليا

 

 الأسس الوراثية المسببة لمرض التوحد

بقلم: خلود ياسر عزيزالدين
مراجعة: د. ضمياء عبد نجم الحلبوسي


مقدمة:

تم وصف التوحد لأول مرة عن طريق العالم Leo Kanner في عام 1943  على أنه عدم القدرة على خلق اتصال عاطفي طبيعي محدد بيولوجيًا مع الآخرين , حيث يصنف  كمجموعة من الاضطرابات( اضطرابات نفسية، و اضطرابات في النمو). 
و من العلامات المميزة لمريض التوحد هي نقص التفاعل الاجتماعي و أيضاً نقص في تطور اللغة، و السلوك غير الاعتيادي المتكرر. و يلاحظ  في مريض التوحد نزعة انطوائية و انسحاب و جمود في العاطفة.

توصلت العديد من الدراسات التي أُجريت للبحث عن العوامل المسببة التوحد إلى أن هذه العوامل قد تكون اما بيئية أو جينية أو كلاهما معاً، و العوامل الجينية  قد تكون موروثة أو غير موروثة. تشكل العوامل البيئية نسبة  20% , بينما تشكل العوامل الجينية 80%.

و كان هناك اعتقاد أن العوامل المتعلقة بالأم مثل (الوزن) تسهم في التسبب في التوحد و لكن الدراسات أثبت ضعف صحة تلك الاعتقادات حيث إنها ان  كانت أحد الأسباب فإنها تشارك بنسبة ضئيلة و في هذه المقالة سيتم التطرق الى العوامل الجينية بشكل محدد. 

العوامل الجينية:

 تعد جينات  التوحد من النوع غير المتجانس وراثياً (genetically heterogeneous) (أي أن حدوث طفرات في جينين أو أكثر يتسبب في نمط ظاهري واحد أو اضطراب وراثي واحد) بدرجة كبيرة و قد يكون ناتج عن تغيرات جينية موروثة و غير موروثة.

-في عام 2014 تم اكتشاف طفرة غير موروثة في جين CHD8 ( جين يترجم إلى بروتين مسئول عن تنظيم نشاط الجين من خلال عملية إعادة تشكيل الكروماتين  الذي هو الشكل المكثف للحمض النووي) و هذا يفسر نسبة من 30% إلى 45% من حالات التوحد.

أوضحت بعض الابحاث أن 10% من حالات التوحد كان سببها طفرات موروثة من الوالدين غالباً ما تكون هذه الطفرات من الأم بنسبة كبيرة.

تمكن علماء العقد الماضي من تحديد مئات الجينات المسببة لضعف الإدراك و ضعف التواصل الاجتماعي و السلوك غير الاعتيادي لمرضى التوحد و هذا يفسر نسبة 10% إلى 20% من حالات التوحد.

سنناقش تطورات المشهد الجيني لاضطراب طيف التوحد، ثم ننظر إلى الفسيفساء الجسدية، و اختلاف عدد النسخ (CNV)، و التنظيم اللاجيني و الطفرات مزدوجة الضربة،  والتأثيرات المرتبطة بالجنس.

تطورات المشهد الجيني لاضطراب التوحد:

لقد أجرى العالمان ((Folstein and Rutter (1977) العديد من الدراسات على التوائم و قد وجدوا أن احتمال تشارك التوائم أحادية الزيجوت monozygote))-(بويضة مخصبة واحدة و تنتج طفلين متماثلين و متشابهين لهما نفس المعلومات الوراثية) ( الزيجوت هو ناتج اندماج المشيج الذكري مع المشيج الأنثوي و يطلق عليها لاقحة أو بويضة مخصبة)- في التشخيص أكثر من التوائم الثنائية (Dizygote) (بويضتين يخصبان بحيوانين منويين و ينتج طفلين غير متماثلين و غير متشابهين، مختلفين في المعلومات الوراثية) مما يؤكد وجود تأثير وراثي.

 عام 1985 تمكن العلماء من معرفة مناطق الجينوم المشارك في التوحد من خلال دراسات النمط النووي ((karyotype (تقنية معملية تنتج صورة كاملة لكروموسومات -التي هي أحد أشكال الحمض النووي- الفرد).
 بعض المواقع التي تم الكشف عنها في الكروموسوم هي q, 1p, 3q, 16p, and 15q7.

 في أوائل العقد الأول من القرن الحادي و العشرين تمكن الباحثين من البحث على نطاق الجينوم كاملاً بسبب ظهور التسلسل عالي الإنتاجية(high throughput sequencing ) و هو إمكانية عمل تسلسل لجزيئات الحمض النووي المتعددة بشكل متوازٍ مما يسمح بعمل تسلسل لمئات الملايين من جزيئات الحمض النووي في وقت واحد أي بطريقة سريعة وفعالة من حيث التكلفة. 

و سرعان ما تم التأكد أن مسببات اضطرابات طيف التوحد تكون في جينات متعددة و غير متجانسة ، عدد قليل فقط من الأمراض المتعلقة بالتوحد مسببات في جين واحد فقط مثل متلازمة X الهشة fragile X syndrome(خلل في تركيب الكروموسوم X يؤدي إلى صعوبة في التعلم و إعاقة عقلية) التصلب الحدبي 

(Tuberous sclerosis) (مرض يوصف بوجود مشاكل في الجلد و تخلف عقلي).

على الرغم من تحديد مئات الجينات الخطرة إلا أن فئتين من الجينات هما السبب في غالبية الإصابات المتكررة، و هما: البروتينات التي تشارك في تكوين التشابك العصبي (synapse formation proteins)، و البروتينات التي تشارك في تنظيم النسخ (transcriptional regulation) و مسارات إعادة تشكيل الكروماتين(chromatin remodeling pathways)


 تشمل الجينات المرتبطة بالتشابك العصبي تلك التي تترجم إلى بروتينات التصاق الخلية مثل:

  • نيروليجين (neuroligins ) و نيوروكسينز(neurexins) :
    تربط الخلايا العصبية قبل وبعد التشابك العصبي ، تتوسط الإشارات عبر التشابك العصبي ، تحدد خصائص الشبكة العصبية من خلال تحديد وظائف التشابك العصبي. 

  • كاديرين (cadherins): هي جزيئات التصاق الخلية الشائعة التي تتوسط اتصال الخلية بأخرى.

  • بروتينات نقل الأيونات مثل:

1) الوحدة الفرعية  2 لقناة الصوديوم ألفا ذات الجهد الكهربائي (SCN2A):

sodium voltage-gated channel alpha subunit 2 (تعمل في توليد وانتشار جهد الفعل action potential في الخلايا العصبية والعضلات)

2) الوحدة الفرعية ألفا E1 لقناة الكالسيوم ذات الجهد الكهربائي (CACNA1E):

calcium voltage-gated channel subunit alpha1 E (تتوسط هذه القنوات في دخول أيونات الكالسيوم إلى الخلايا القابلة للاستثارة ، وتشارك أيضًا في مجموعة متنوعة من العمليات المعتمدة على الكالسيوم ، مثل انقباض العضلات ، وخروج الهرمون أو الناقل العصبي، وحركة الخلية، وانقسام الخلايا، وموت الخلايا).

3) العائلة الفرعية D العضو  2 لقناة البوتاسيوم ذات الجهد الكهربي (KCND2):

potassium voltage-gated channel subfamily D member 2 (لها وظائف متعددة مثل تنظيم إطلاق الناقل العصبي، ومعدل ضربات القلب، وإفراز الأنسولين، واستثارة الخلايا العصبية، انقباض العضلات الملساء، وحجم الخلية).


الفسيفساء الجسدية Somatic Mosaicism:

-تشير إلى مجموعتين من الخلايا مختلفتين وراثياً نتيجة لطفرة بعد تكوين الزيجوت قد تؤثر في جزء فقط من الجسم ولا تنتقل إلى النسل. لها دور أساسي في كثير من أمراض النمو العصبي بما في ذلك التوحد. إن نسبة 5% إلى 7% من المتغيرات المسببة للأمراض الغير موروثة (de novo pathogenic variations) تنشأ بعد تكوين الزيجوت.

معظم الطفرات غير ضارة لكن التغيرات في الإكسونات exons ( الجزء الذي يترجم من الجين) يمكن أن تكون ضارة للغاية.
 و قد وجد العلماء عام 2017 أن المتغيرات الجسدية في مرضى التوحد توجد بكثرة في الإكسونات. تقدر حالات اضطرابات طيف التوحد البسيطة بسبب دور الفسيفساء الجسدية بنسبة 3% إلى 5% و ذلك من خلال دراسة بيانات تسلسل الإكسوم الكامل(WES). 
و تم أيضاً تحديد جينات خطر جديدة توجد بكثرة في المخيخ. و التي تفسر صعوبة التنسيق المرتبطة باضطرابات المشي لدى أطفال التوحد من  دراسة كبيرة لبيانات تسلسل الإكسوم الكامل (WES). 

اختلافات عدد النسخ ((Copy number variations (CNVs) :

هي متغيرات دون مجهرية - لا يمكن رؤيتها بالميكروسكوب الضوئي العادي- في الكروموسومات والتي تشمل الحذف و التكرار و الانتقال و تمتد إلي مئات القواعد النيتروجينية (kilobases). 
يمكن أن تكون هذه المتغيرات موروثة أو غير موروثة. 
و قد تتأثر العديد من الجينات بهذه المتغيرات و لكن ليس بالضرورة أن تسبب كلها مرض.

 أثبتت العديد من الدراسات وجود اعداد كبير من الاختلافات النادرة في عدد النسخ الجينية لدى مصابي التوحد مما يؤكد مشاركة هذه الاختلافات في اضطرابات طيف التوحد. و هذه الحالات تشكل ما يقرب 10% من حالات التوحد.

معظم الجينات ال25 في منطقة (16p11.2) تكون نشطة جدا و مهمة في التكوين السليم أثناء تطور الجهاز العصبي. لذلك تغيير الجينات المشاركة في التطور توضح سبب الأعراض الملاحظة في اضطرابات طيف التوحد. 
يعتقد أن حذف أو تكرار جين واحد فقط في منطقة (16p11.2)  والذي يعد هو الجين المسئول عن الأمراض النفسية و العصبية ويؤثر على الانتقال بين التشابكات العصبية , و لكن حذف أو تكرار جين واحد قد لا يكون كافي ليسبب المرض لذلك التفاعل بين ال25 جين في هذه المنطقة يسهم في القابلية للإصابة. 

الطفرات مزدوجة الضربة Double hit mutation :

أشارت الدراسات على إحدى الحالات بأنه كان هناك مريض ذكي مصاب بالتوحد، مع أبوين غير مصابين، كان هناك حذف 10 ميغا قاعدة نيتروجينية (10 Mega bases) موروث من الأم في q21.213. 
من خلال تحديد تسلسل الجينات بعد عملية الحذف تم تحديد استبدال الأحماض الأمينية غير الموروثة من الأب في الموضع 614 لدايافانوس همولوجو 3 (diaphanous homolog 3 (DIAPH3) -و هو جين مسئول عن اعتلال عصبي سمعي -  فقد تم استبدال بروتين البرولين proline ببروتين ثريونين Threonine.

 تشير النتائج التي توصل إليها العلماء إلى أن DIAPH3 هو جين جديد للإصابة بالتوحد و هذا يعبر عن الضربة المزدوجة من خلال حذف الجينوم الموروث من الأم والطفرة الخاطئة النادرة الموروثة من الأب. 
عندما يكون الوالدين أقرباء وراثيًا إلى حد ما؛ فمن المرجح أن يحصل أبناؤهم على "ضربات مزدوجة" من المتغيرات الجينية - معظمها غير ضار - ولكن بعضها قد يكون سببًا للأمراض.

التنظيم اللاجيني Epigenetic Regulation:

إن العمليات اللاجينية تنظم التعبير الجيني عن طريق تحديد معدل أو تكرار أو مدى التعبير الجيني بطريقة لا تستلزم تغيير في تسلسل الحمض النووي. 

إن الجينات التي لها وظائف التعديل الوراثي يشاركون بشكل كبير في اضطرابات طيف التوحد. وجد أن 19.5% من 215 جين هي تراكيب لاجينية (epigenetic regulator) ، مما يشير إلى إمكانية ظهور أنماط ظاهرية  (phenotype) متنوعة للمرض بسبب عدد قليل من المتغيرات المسببة للأمراضpathogenic variants.  

أحد الأمثلة على العمليات اللاجينية:

قام أحد العلماء بفحص القشرة الأمامية للدماغ( of the brain frontal cortex ) التي تتميز في مريض التوحد بانخفاض تماسكها قشريا و التلفيف المغزلي( fusiform gyrus) ل  14 دماغ من مصابي التوحد فوجد أن  11 حالة من أصل  14 حالة انخفاض ملحوظ في بروتين ربط الميثيل protein-2) methyl CpG binding) (هو بروتين نشط في تنظيم الجهاز العصبي المركزي و تطوير اتصالات التشابكات العصبية) مقارنة بحالات سليمة من نفس العمر و قد يصل الانخفاض بمقدار ضعفين في بعض الحالات بالإضافة إلى انخفاض الخلايا التي تعبر عن مستويات عالية من  MeCP2. 

أما بالنسبة لنتائج التلفيف المغزلي فقد حصل على 5 حالات من أصل 6 أظهرت انخفاضا في التعبيرعن MeCP2 في القشرة المغزلية (fusiform cortex) مع انخفاض التعبير أيضا في القشرة الأمامية. 
وقد يساعد التنظيم اللاجيني للتعرف عل سبب انخفاض التعبير عن MeCP2 في مصابي التوحد حيث تم إجراء اختبارات المثيلة methylation tests) أي إضافة مجموعة ميثيل CH3), في منطقة البروموترpromoter (المنطقة التي يبدأ عندها ترجمة الجين) الخاصة بجين MeCP2 .
 
تمت ملاحظة مثيلة methylation الجزء ′5 من المنطقة التنظيمية (التي يجرى عليها الميثلة) لمعظم عينات التوحد و أظهرت مجموعة التوحد زيادة في المثيلة عند مقارنتها بعينات مجموعة سليمة من نفس العمر. هذه النتائج تشير إلى أن المثيلة المختلفة لمصابي التوحد ربما أدت إلى انخفاض التعبير عن MeCP2 ، والذي أصبح دليل على التوحد.

                                                                                             Sex-Linked Modifiers التأثيرات المرتبطة بالجنس 

 ثبت أن معدلات إصابة الذكور بالتوحد أكثر من معدلات الإصابة في الإناث.

 و يرجح أن الإناث محميين من قابلية الإصابة بالتوحد؛ إن اكتشاف أن هرمون الاستروجين ينقذ الأنماط الظاهرية من اضطرابات طيف التوحد في نماذج الفأر للتوحد هو دليل مقنع بشكل خاص لنظرية حماية الإناث. 

وجدت العديد من الدراسات أيضًا أن الأمهات غير المصابات قد يحملن نفس الطفرة التي يحملها أطفالهن الذكور المصابين ؛أحد الأمثلة الموثقة جيدًا على هذا هو تكرار q11-1315.

تشير بعض الابحاث ان من المحتمل أيضًا أن الإناث غير محمين من قابلية الإصابة ، لكن الذكور معرضون للخطر بشكل خاص. 
فقد أشارت حوالي ثلاث دراسات إلى أن الذكور لديهم تعبير أكثر عن الجينات المشاركة  في اضرابات طيف التوحد مثل منظمات الكروماتين chromatin regulators والجينات المرتبطة بالتدخل المناعي genes related to immune involvement .

ان الاشخاص الذين يعانون من نقص RORA(RAR-related orphan receptor A  والذي  يلعب دورا هاما في تطور المخيخ- قد يكون لديهم خلل في تنظيم الجينات أكبر من الإناث. 

كما ان الجزيئات الرئيسية المشاركة في النقل العصبي مثل GABA ، والجلوتامات Glutamate ، والسيروتونين Serotonin كلها مشاركة في اضطرابات طيف التوحد ويتم تعديلها بواسطة الهرمونات الجنسية.


المــــــراجـــــــــع:

ليست هناك تعليقات